ما يتعلق بحديث جبريل عليه السلام تقدم إيضاحه، لكن قول الشارح رحمه الله تعالى: (وهذا -أي: ما تقدم من كون حديث جبريل عليه السلام اشتمل على مراتب الدين الثلاث- كما قال تعالى: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ))[فاطر:32]) التي يبين الله تبارك وتعالى فيها فضل هذه الأمة؛ لأن الله تعالى قال في أولها: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ))[فاطر:32] فبين الله عز وجل أن هذه الأمة أمة مصطفاة، وأنه أورثها الكتاب بعد أن أنزل الكتاب على أمتين قبلها، ولكن الأمتين السابقتين جانبتا الطريق، إحداهما هي الأمة المغضوب عليهم وهم اليهود ، والأخرى هم الأمة الضالة، وهم النصارى ، فإنها بخلاف أمة الإسلام لزمت الصراط المستقيم؛ ولهذا يقول الله تبارك وتعالى فيها: (( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ))[آل عمران:110] فهذه الأمة مفضلة والحمد لله على من قبلها، وهي مصطفاة في جملتها ومجموعها، والظالم لنفسه داخل في جملتها فيكون داخلاً في الاصطفاء، فإن الله تعالى قال: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ))[فاطر:32]، وهؤلاء فصلهم الله، فمنهم الظالم لنفسه، فكون الظالم لنفسه يكون من جملة الأمة المصطفاة، فهذا دليل على فضل هذه الأمة، فما بالك بالسابق بالخيرات بإذن الله، فهم أفضل الخلق عند الله تبارك وتعالى.
وهذه الآية فيها دليل واضح على بطلان مذهب الخوارج وأمثالهم، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هذه الآية والاستدلال بها في كتاب الإيمان الأوسط محتجاً على الخوارج ومن تبعهم من المعتزلة الذين يتفقون معهم في الحكم، ويختلفون معهم في الاسم فقط، فالظالم لنفسه أي: المرتكب للمعاصي لا يخرج من النار عند الخوارج ، والصحابة والمفسرون من السلف رضوان الله تعالى عليهم وقع بينهم الخلاف في هذه الأصناف الثلاثة: من هي ومن تكون؟ وهل هي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي آمنت به وأذعنت وانقادت؟ أم أن الأقسام الثلاثة هي أقسام الناس عموماً؟ الخلاف القديم، فمن المتقدمين من قال بقول مرجوح سنبينه إن شاء الله، ولم يذهبوا أبداً إلى قول الخوارج و المعتزلة ، و الخوارج و المعتزلة خالفوا السلف الصالح في هذا، وبيان ذلك أن الله سبحانه وتعالى قسم الناس في بعض الآي قسمين: المؤمنون والكافرون، وفي بعض السور ثلاثة أقسام، وقسمهم في هذه الآيات أربعة أقسام، لكن بعض المفسرين فهموا أن الأقسام الأربعة التي في سورة فاطر هي نفس الأقسام التي في سورة الواقعة، في قول الله تبارك وتعالى: (( وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ))[الواقعة:7] أي: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون، فهؤلاء ثلاثة أقسام، وهذا تفصيل أكثر من قسمة الناس إلى قسمين كما في سورة البينة وغيرها كثير جداً من القرآن، كما في أول سورة البقرة، فالمؤمن والكافر والمنافق في أول سورة البقرة هو بحسب حقيقة الإيمان، والأقسام الثلاثة التي في سورة الواقعة على اعتبار أن طائفتين في الجنة وطائفة في النار بخلاف ما في أول سورة البقرة، فالتقسيم هناك بحسب البداية، وما في سورة الواقعة فهو بحسب المآل عند الله تبارك وتعالى؛ لأن الكلام فيها عن أزواج الناس وأحوالهم يوم القيامة، وأما في سورة فاطر فالقسمة رباعية، ولهذه القسمة الرباعية ميزة، وهي تبين أن هذه الأمة مفضلة ومصطفاة جميعها حتى أصحاب الكبائر منهم، أما من كان كافراً فلا يدخل في هذا؛ لأنه بلا توحيد ولم يؤمن بالله، وقد يكون أعلن الإيمان بلسانه لكنه كافر باطناً كالمنافقين، فهذا خارج عن الدخول في الأمة المصطفاة، وهنا نبين أن هذه الأمة مفضلة جميعها، وعلى ذلك يكون أصحاب الكبائر داخلين في هذا التفضيل باعتبار معين وهم من أهل الوعيد، لكن باعتبار المآل فسيؤول أمر هذه الأمة إلى حالتين، إما أن يكون أهلها من الصديقين المقربين، وأما أن يكونوا من أصحاب اليمين، ومنهم من يدخل النار؛ ولذلك قررنا القاعدة وهي أن مذهب أهل السنة والجماعة أنه لا بد أن يدخل بعض أهل الكبائر النار، ومنهم من لا يدخل النار، والآيات والأحاديث في هذه واضحة؛ لأن منهم من يعفو الله تبارك وتعالى عنه كما قال: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48] وقول الخوارج و المعتزلة أنه لا يدخل الجنة أحد من أهل الكبائر باطل، وكذلك قول المرجئة بأنه يجوز ألا يدخل كل أهل الكبائر النار، والحق هو عقيدة أهل السنة والجماعة أن بعض أهل الكبائر يدخلون النار، والبعض قد يغفر لهم؛ لأن الله يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، فمن شاء غفر له، ومن شاء عذبه وكل ذلك منه عدل، وهو لا يظلم مثقال ذرة.
فالقسمة الرباعية في سورة فاطر ترجع إلى القسمة الثلاثية بدليل أننا لو قرأنا أول هذه الآيات: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ))[فاطر:32] لوجدنا أن مآلهم كلهم ومصيرهم ((جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ))[فاطر:33]، وهم يقولون: الحمد لله (( الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ))[فاطر:35]، وهذا يراد به هذه الأمة المصطفاة بأقسامها الثلاثة، ثم قال تعالى بعد ذلك: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ))[فاطر:36]، وهذا قسم آخر لا يدخل في الاصطفاء، وليس من أهل الجنة.
إذاً: هذه الآيات تدل على أن الأقسام أربعة، فالقسم الرابع هم الذين كفروا، وليسوا من الذين أورثوا الكتاب، ولا من الذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى، وليسوا ممن يدخلون الجنة ويحلون فيها، وليسوا ممن يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن؛ لأنهم في غاية الحزن، فسياق الآيات واضح أن الكفار إنما يبدأ الحديث عنهم من قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا).. الآية، فالقسم الأول هو في الذين آمنوا، وأما هؤلاء فهم طائفة أخرى لها حكم آخر وشأن آخر كما في الآية: (لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) والكافر حاله عذاب دائم، وهو خالد مخلد في النار، وفي هذا دليل واضح على بطلان مذهب الخوارج و المعتزلة ؛ لأن الخوارج و المعتزلة يتفقون معنا على أن مرتكب الكبيرة ظالم لنفسه، ولا شك في ذلك؛ لكنهم يقولون: إن مرتكب الكبيرة خالد مخلد في النار، ويجعلونه من الذين لا يقضى عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها.
فهم قد خالفوا هذه الآيات، وخاصة أننا عندما نقول: إن مرتكب الكبيرة يدخل النار، فليس معناه أنه يخلد في النار، وآيات دخول المؤمنين الجنة هي باعتبار المآل ونهاية الأمر، فكل هذه الأمة مآلها الدخول في الجنة، وأما السابقون فهم يدخلون الجنة ابتداءً، ولهم الدرجات العلى، وهم المقربون، والمقتصد أيضاً يدخل الجنة لكن له درجات أدنى، وهو من أصحاب اليمين، وليس دخول الجنة لهذين فقط، بل إن الظالم لنفسه وهو مرتكب الكبيرة مآله إلى الجنة وإن بقي في النار ما بقي، فهو يدخل النار ابتداءً لكن مآله في النهاية أن يكون من أهل الجنة، ومآله شكر الله تبارك وتعالى وحمده الذي أذهب عنه الحزن، بل إن أصحاب النار المذكورون في آيات فاطر لا يدخل فيهم أصحاب الوعيد أو أهل الكبائر؛ لأنها صريحة في أنها نار الكفار الخالدين المخلدين فيها، فعلى هذا تكون رداً واضحاً على الخوارج و المعتزلة .
وإذا عدنا لمعرفة مذهب الخوارج و المعتزلة نجدهم يقولون: إن القسمة ثلاثية كما في سورة الواقعة، لكنهم يفسرونها بأن يجعلوا الظالم لنفسه المرتكب الكبيرة يساوي الكافر، فيقولون: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من هو ظالم لنفسه، وهذا هو الذي ارتكب كبيرة، وهو عندهم كافر، وأما المقتصد فهو عندهم من أصحاب اليمين الذين لم يرتكبوا الكبائر، لكن اكتفوا بأداء الواجبات وترك المحرمات، وأما السابقون فهم الذين كملوا إيمانهم بترك المكروهات وأداء المستحبات، فالقسمة عند الخوارج و المعتزلة ثلاثية، فلا يفرقون بين آيات فاطر وبين آيات الواقعة، وعلى هذا فهم يرون أن مرتكب الكبيرة من هذه الأمة حكمه حكم الكافر المخلد في النار، فلا فرق بين هذا وبين هذا.